فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

سورة الأحزاب:
نزولها: مدنية.
عدد آياتها: ثلاث وسبعون آية.
عدد كلماتها: ألف ومائتان وثمانون كلمة.
عدد حروفها: خمسة آلاف وسبعمائة وستة وستون حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
مع أن هذه السورة مدنية، ومع أن السورة التي قبلها السجدة مكية، ومع الفاصل الزمنى الممتد بينهما، فقد اتصلت السورتان بعضهما ببعض، والتقى ختام السابقة منهما ببدء التالية، حتى لكأنهما سورة واحدة. وهذا مما يدل على أن ترتيب السّور في المصحف توقيفى كترتيب الآيات في السور. وهذا يعنى أن الصورة التي نزل عليها القرآن تختلف جمعا وترتيبا- وإن لم تختلف مادة وموضوعا- عن الصورة التي انتظم عليها نظام القرآن، بعد أن تم نزوله، في العرضة الأخيرة التي كانت بين جبريل وبين النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليهما- على ما سنرى ذلك عند تفسير السورة.
وهنا يلقانا أمر نحبّ أن نقف عنده، وننظر فيه، وفي الآثار التي تنجم عنه.
فتنة الترتيب النزولى للقرآن فهناك دعوة جديدة محمومة بدأت تظهر في آفاق مختلفة في محيط العالم الإسلامى، وفي خارج هذا المحيط، تدعو إلى إعادة نظم القرآن وجمعه على حسب ترتيب نزوله. بمعنى أن يكون المصحف القرآنى المقترح، مبتدئا بأول آية تلقاها النبي الكريم، وحيا من ربه، ثم الآية التي تليها، وهكذا آية آية، وآيات آيات، حتى آخر آية نزلت على النبي.
وهذا أمر يبدو في ظاهره أنه دراسة من الدراسات التي تخدم القرآن، مثل تلك الدراسات التي قامت حول الكتاب الكريم، كأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والمكي والمدني، والنهارى والليلى، وما نزل ببيت المقدس، وما نزل بالطائف، وما نزل بالسفر، وما نزل بالحضر، إلى غير ذلك من تلك الدراسات الكثيرة، التي تدور في فلك القرآن، ولا تمس الصميم منه.
ومن هنا كان خطر هذه الدعوة، التي قد ينخدع لها كثير من المسلمين، والتي ربما اندفع في تيارها، بعض العلماء، عن نية حسنة، ومقصد سليم، إذ كان الأمر في ظاهره دراسة في كتاب اللّه، وفتحا جديدا، يعد كشفا من كشوف العلم الحديث في دراسة القرآن.
ويبدو الخطر الذي يتهدد القرآن من الفتنة، ماثلا من وجوه:
فأولا: استحالة ضبط صورة القرآن على حسب الترتيب النزولى لآياته.
حيث لم يعرف الترتيب النزولى إلا لعدد محدود من آيات القرآن، لا تمثل إلا أقل القليل منه. قد لا تتجاوز بضع آيات، أو عشرات من الآيات على أكثر تقدير. وحتى هذا القليل الذي يقال إنه معروف الترتيب، لم يقع الإجماع بين العلماء عليه، وحتى أنهم لم يتفقوا على أول ما نزل به الوحى، كما لم يتفقوا على آخر ما نزل به. فبينما يقول أكثرهم إن أول ما تلقى النبي من وحي، هو قوله تعالى: {اقْرَأْ باسْم رَبّكَ الَّذي خَلَقَ خَلَقَ الْإنْسانَ منْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذي عَلَّمَ بالْقَلَم عَلَّمَ الْإنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ} بينما يقول أكثرهم هذا، يقول بعضهم- كما في صحيح مسلم- إن أول ما نزل من القرآن المدثر كما يقول آخرون، إن أول ما نزل من القرآن الفاتحة ثم نزل بعدها المدثر، ثم الآيات الثلاث الأولى من سورة نوح.
وبينما يقول أكثر العلماء، إن آخر القرآن نزولا هو قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نعْمَتي وَرَضيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دينًا} (3: المائدة) إذ يقول آخرون إن آخر ما نزل من القرآن هو: {إذا جاءَ نَصْرُ اللَّه وَالْفَتْحُ} ويقول غيرهم إن آخر القرآن نزولا هو قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فيه إلَى اللَّه} (281: البقرة) وفي البخاري أن آخر القرآن نزولا: {يَسْتَفْتُونَكَ قُل اللَّهُ يُفْتيكُمْ في الْكَلالَة} (176: النساء).
فإذا كان المسلمون لم يتفقوا على أول آيات نزلت من القرآن، كما لم يتفقوا على آخر ما نزل منه، فكيف يقع اتفاقهم فيما وراء ذلك؟ والمعروف أن أوائل الأمور، وأواخرها أكثر إلفاتا للناس وشدّا لانتباههم، وإيقاظا لمشاعرهم، وتعلقا بذاكرتهم، من غيرها! ثانيا: لو سارت هذه الفتنة إلى غايتها، وسلّم لأصحابها أن يمضوا بها كما يشاءون- ومع افتراض النية الحسنة فيهم- فإن الذي سيحدث من هذا هو أن تتغير صورة القرآن تغيرا كبيرا، لا يصبح معه القرآن قرآنا، بل سيكون هناك عشرات، بل مئات وألوف من المصاحف التي تسمى قرآنا، والتي لا يلتقى واحد منها مع آخر. وكل ما فيها أنها آيات القرآن، انفرط عقدها، وتناثرت آياتها، كما تتناثر أجزاء آلة من الآلات الميكانيكية أو الكهربية، ثم تتناولها أيدى أطفال، يجمعونها ويفرقونها كما يشاءون! ونضرب لهذا مثلا من القرآن، لصورة من تلك الصور التي يمكن أن نجىء عليها سورة كسورة العلق مثلا، وهى التي يكاد يتفق العلماء على أن الآيات الأولى منها كانت أول ما نزل من الوحى. وهى قوله تعالى: {اقْرَأْ باسْم رَبّكَ}.
إلى قوله تعالى: {عَلَّمَ الْإنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ}. ثم نصل هذه الآيات بما قيل إنه كان أول ما تلقاه النبي بعدها من آيات، وهى قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الْمُدَّثّرُ قُمْ فَأَنْذرْ وَرَبَّكَ فَكَبّرْ وَثيابَكَ فَطَهّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثرُ وَلرَبّكَ فَاصْبرْ} ثم لنصل بها ما كان تاليا لها في النزول، وهى الآيات الثلاث من أول سورة نوح.
ونقرأ هذا القرآن: {اقْرَأْ باسْم رَبّكَ الَّذي خَلَقَ خَلَقَ الْإنْسانَ منْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذي عَلَّمَ بالْقَلَم عَلَّمَ الْإنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ}.
{يا أَيُّهَا الْمُدَّثّرُ قُمْ فَأَنْذرْ وَرَبَّكَ فَكَبّرْ وَثيابَكَ فَطَهّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثرُ وَلرَبّكَ فَاصْبرْ}.
{إنَّا أَرْسَلْنا نُوحًا إلى قَوْمه أَنْ أَنْذرْ قَوْمَكَ منْ قَبْل أَنْ يَأْتيَهُمْ عَذابٌ أَليمٌ}.
{قالَ يا قَوْم إنّي لَكُمْ نَذيرٌ مُبينٌ أَن اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطيعُون يَغْفرْ لَكُمْ منْ ذُنُوبكُمْ وَيُؤَخّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُسَمًّى إنَّ أَجَلَ اللَّه إذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
هذه صورة، أو سورة، مما يمكن أن يقرأ عليه القرآن، لو أخذ بالترتيب النزولى، الذي تدعو إليه تلك الفتنة، وذلك على قول واحد من تلك الأقوال الكثيرة المختلفة في هذا الترتيب. فكيف لو أخذ بكل قول؟ ثم كيف لو أخذ بالأقوال المختلفة كلها في القرآن كله، في ترتيب نزوله؟ إنه- والأمر كذلك- لا تكاد تجتمع آية إلى آية، حيث لا تلتقى رواية على رواية، ولا يتفق قول مع قول. وبهذا يكون أي ترتيب لآيات القرآن، صالحا لأن يقبل أي دعوى تدّعى أنه الترتيب الذي نزل عليه. وتستوى في هذا جميع الدعاوى التي تدعى، إذ كانت كلها ترجع إلى غير مستند صحيح، يعول عليه.
ومن هذا يتسع المجال للكيد، وتنفسح السبيل للأهواء. وإذا الذي في أيدى المسلمين أعداد لا تحصى من كتاب اللّه. حتى ليكاد يكون لكل مسلم قرآن يقرؤه على الترتيب الذي يراه.
وانظر، ماذا يكون وراء هذا من بلاء، وفتنة! فمثلا إذا قرأ قارئ آية، ثم أتبعها أخرى، وجد مئات، وألوفا من الخلاف عليه، هذا يقول: إن الآية التالية هي كذا، وذاك يقول إنها هكذا. وثالث، ورابع. إلى مئات المقولات وألوفها. وحسب المسلمين من هذا فرقة وشتاتا.! مع أن هذا أقل ما يرد عليهم من شرور هذه الفتنة، إذا كان هذا الخلاف في غير آيات الأحكام. أما إذا وقع ذلك في آيات الأحكام، وهو واقع لا محالة، فهيهات أن تقوم للمسلمين شريعة، أو ينتظم لهم له رأى في حكم من أحكام دينهم.
وخذ مثلا لهذا، الآيات الواردة في الخمر، أو الربا، والتي روعى في نزولها أخذ المسلمين بالرفق والحكمة، في تحريم هذين المنكرين. فجاء الحكم في تحريمهما متدرجا، من التنزه والتعفف، إلى الكراهية، ثم إلى التحريم.
إن لقائل أن يقول: إن آيات الخمر نزلت على هذا الترتيب:
{يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رجْسٌ منْ عَمَل الشَّيْطان فَاجْتَنبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلحُونَ يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إلَّا عابري سَبيلٍ حَتَّى تَغْتَسلُوا وَإنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ منْكُمْ منَ الْغائط أَوْ لامَسْتُمُ النّساءَ فَلَمْ تَجدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعيدًا طَيّبًا فَامْسَحُوا بوُجُوهكُمْ وَأَيْديكُمْ إنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُورًا يَسْئَلُونَكَ عَن الْخَمْر وَالْمَيْسر قُلْ فيهما إثْمٌ كَبيرٌ وَمَنافعُ للنَّاس وَإثْمُهُما أَكْبَرُ منْ نَفْعهما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفقُونَ قُل الْعَفْوَ كَذلكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ في الدُّنْيا وَالْآخرَة وَيَسْئَلُونَكَ عَن الْيَتامى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُخالطُوهُمْ فَإخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسدَ منَ الْمُصْلح وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إنَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَكيمٌ}.
وإن لقائل هذا القول لمنطقا، إذ أن له أن يقول، إن آيات الخمر نزلت جملة واحدة، جمعت أطراف الأمر كله! وعلى هذا يكون النظر في حرمة الخمر وحلّه. ثم إن له أن يقول- وإن لقوله لمنطقا: إن الخمر ليس حراما حرمة مطلقة، إلا أن يسكر منه شاربه، ثم يصلى وهو سكران! ويقال: مثل هذا كذلك في الربا، على اعتبار أن آخر الآيات نزولا هي قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرّبَوا أَضْعافًا مُضاعَفَةً}. فالربا لا يكون- على هذا الاعتبار حراما إلا إذا كان أضعافا مضاعفة.
وهكذا يمكن أن تعرض أحكام الشريعة كلها على آيات القرآن، وتستدار لها الآيات على أي وجه يقيمه الناس عليه.
وثالثا: لو سلّم جدلا، بإمكان ترتيب القرآن ترتيبا زمنيا بحسب نزوله- وهو أمر مستحيل استحالة مطلقة- فما جدوى هذا؟ وماذا يعود على دارسى القرآن منه؟
لقد أشرنا إلى بعض الأخطار المزلزلة التي تهدد الإسلام- شريعة وعقيدة- من هذه الفتنة فهل وراء هذه المجازفة شيء من الخير، يقوم إلى جوار هذه الشرور العظيمة الناجمة منها؟ إن كل شر يقوم إلى جواره بعض الخير، الذي قد يجعل للشر وجها يحتمل عليه، ويبّرر الأخذ به.
فهل في هذا الشر أية لمحة من لمحات الخير؟.
والذي نقطع به أن هذا العمل شر محض، وإن زين أهله ظاهره بهذا الطلاء الزائف، تحت شعار الدراسة التاريخية للقرآن، على نحو الدراسة الجغرافية، أو الدراسة النفسية، أو غير ذلك من الدراسات التي تضاف إلى القرآن، وتدور في فلكه، دون أن تمس الصميم منه.
ولا نقف طويلا في مواجهة هذه الفتنة، ولا نمعن النظر كثيرا في وجهها الكئيب المشئوم. وننظر في كتاب اللّه، الذي في أيدينا، نظرا مباشرا، على ما تركه فينا من أنزل إليه هذا الكتاب- صلوات اللّه وسلامه عليه- فهذا هو القرآن الذي أمرنا بالتعبد به تلاوة، والعمل بأحكامه، وآدابه على ما نتلوه عليه. فهذا هو قرآننا، وهذا هو ديننا الذي نتلقاه من كتابنا. وإن أية تلاوة تقوم على غير هذا الوجه، هي كلام، لا قرآن، وإن أية شريعة تقوم على غير هذه التلاوة ليست من شريعة الإسلام، ولا من دين اللّه، سواء التقت مع شريعة اللّه أو لم تلتق معها، وسواء أوافقت دين الإسلام، أو خالفته.
نقول هذا، ونحن على علم، وعلى إيمان بأن القرآن الكريم نزل منجما، ولم ينزل جملة واحدة، وأنه كان في مرحلة نزوله، على ترتيب غير هذا الترتيب الذي انتهى إليه، بعد أن تم نزوله!.
فهناك دوران قام عليهما بناء القرآن الكريم. دور الدعوة. ثم الدور الذي تلاها. ولكل من الدورين أسلوبه، وغايته.